شارك المقال عبر:
حسين الحاجي:
اعتدت في ورش ودورات التدريب على (مهارات وفرص العمل الحر عبر الإنترنت) أن يتم التمهيد للموضوع بالتطرق لمفهوم العمل الحر ومزاياه، وخصوصاً عبر الإنترنت .. وبدلاً من سردها جاهزة في قائمة معدة سابقةً، أقوم أحياناً بفتح المجال للمشاركين كي يدلي كل منهم بمفهومه عن العمل الحر عبر الإنترنت وما هي أهم مزاياه من وجهة نظره..في فقرة أشبه ما تكون بالعصف الذهني .. وقد تكون هي فقرة (كسر الجليد) أحياناً لأنني لا أحب كسر الجليد “التقليدي” عبر التعارف الشخصي بالمعلومات الروتينية وفقط :D
في أكثر هذه التجارب كنت أكتب ما يلخّص المتدرّبون في النهاية.. بالإضافة إلى اتفاقهم إلى حد ما حول التعريف، يتفقون كذلك في بعض النقاط المشتركة الرئيسية التي يرونها قيمة مضافة مهمة في العمل الحر عبر الإنترنت.. وهي:
١- حرية الوقت والمكان:
العمل من أي مكان تشاء، في أي وقت تشاء.
٢- الاستقلالية التامة:
وما يتم التعبير عنه بعبارة "ما فوقك مدير" :)
المشترك بين النقطتين هو (نمط الحياة Life Style) في مجال العمل الحر: المرونة والاستقلالية..
ومع تحول العديد من بيئات العمل الوظيفي -جزئياً أو كلياً- إلى تفضيل نمط الحرية في وقت ومكان العمل، عبر السماح بالعمل عن بُعد (الواقع الذي فرضت أزمة كورونا إمكانيّته بل وجدواه في تجارب كثيرة)، فلم تعد هذه بحد ذاتها ميزة حصرية في العمل الحر المستقل عبر الإنترنت.
بينما تبقى النقطة الثانية قائمة كخاصية لازالت توجد في العمل الحر، حيث يكتفي المستقل (صاحب العمل الحر) بقراره الشخصي في كل ما يتصل بتحقيق الدخل المادي وبناء المستقبل المهني: المنتج والخدمة والسعر والتخطيط والتنفيذ والإنجاز والمتابعة والتسارع والتباطؤ والمستهدفات.. وإلى نهاية قائمة الـKPIs.
أذاً، (الاستقلالية التامة)، هي ميزة لا يمكن التقليل من شأنها في العمل الحر. وستظهر لنا حتى مع البحث في الإنترنت وعبر محادثات الذكاء الاصطناعي حول نفس الموضوع، وكأنها تعكس أمنيةً شائعة بالانعتاق من “سلطة المدير” الذي لا يجد مفراً من ممارسة دوره الإداري في "الوقوف فوق رأس الموظفين" لمتابعة الأداء ومراقبة الإنجاز وتقدم العمل وحسن استغلال الموارد المتاحة للفريق لتحقيق الأهداف، والمحاسبة عليها..
الأمر الذي:
لن يعجب كل الموظفين في كل الوقت:
وهنا يتساوى الموظف المبدع في ابتكار طرقه الخاصة في أداء عمله بدون الالتزام بالتعليمات الحرفية والإجراءات التقليدية الروتينية التي يحاول مديره البيروقراطي (أو ضعيف الشخصية!) إلزامه بها بطريقة تضيع وقته وتشل تفكيره وتحوّل المهمّة إلى كتلة صخرية. والموظف الكسول المهمل الذي لا يتحمّل أن يجري خلفه أحد لمتابعة إنجازه ومدى التزامه بالواجب الوظيفي واحترامه للمواعيد. وثالثهم الموظف المستنزَف الذي تثقل الإدارة كاهله بالمهام المتراكمة والمرهقة ولا تمنحه الوقت الكافي والموارد اللازمة لإنهائها بيسر حتى يصاب بحالة من الشتات أو الاستنزاف، فكلما حاول المدير المراجعة معه حول تباطؤ الأداء، كلما دفعه أكثر نحو الانفجار.
وبنفس الوقت:
لن يتقنه كل المدراء في كل الوقت:
وهنا لعله بيت قصيد مهم، فمع وجود مدراء قياديين مهرة وأكفاء مهنياً، وعلى مستوى عالٍ جداً من الذكاء والخلق الرفيع، يتقنون فن الإدارة المسؤولة ويشعر الموظفون معهم بالتمكين والثقة والأمان والنمو والتحفيز.. لحد الإصرار على البقاء تحت جناحهم لأطول فترة ممكنة.. بل ويرفضون أي عرض وظيفي آخر لا يضمن لهم الانضواء تحت لواء قيادة مماثلة.. هنا حيث تصبح (سلطة المدير) ظلاً يأنس وينعم به الموظفون وتصبح حياتهم معه ذات جدوى وجودة ..
إلا أن هذه ليست هي الحال دائماً.. فسيكون هناك نماذج أخرى معاكسة لا تحسن أداء مهمة (المدير) الحساسة والمهمة على النحو السليم والفعّال.. وساهمت في بناء صورة ذهنية نمطية عن شخصية المدير قد تسبق إلى الأذهان أسرع من الصورة الأولى أحياناً.. و هي في الغالب من تقف خلف تحوّل (غياب المدير) إلى ميزة رئيسية في الأعمال الحرة لأن العمل معها سيحوّل بيئة العمل إلى بيئة سامّة، وتؤثر بشكل سلبي حاد على إنتاجية الموظفين وحتى جودة حياتهم .. ومنها :
١- المدير النرجسي:
الذي لا يعرف من الإدارة إلا الرؤية السطحية والمصالح الشخصية: السلطة والنفوذ والصلاحيات والامتيازات والنظرة الشخصية الضيقة.. يركز بشكل مفرط على نفسه وإنجازاته، ويبحث باستمرار عن الإعجاب والتقدير من الآخرين ولا يتقبل النقد ولو كان في صالحه ومخلصاً له. يتجاهل احتياجات الموظفين ويسعى دائمًا للظهور بمظهر القائد المثالي ولو تصنّعاً.. وأضف إليه:
٢- المدير ضعيف الشخصية:
الذي لا يملك الحزم الكافي لضبط الفريق ولا للدفاع عنه أمامه الإدارة العليا أو الأنظمة والقوانين عديمة الفائدة والجدوى وربما يقف في صفها ضد فريقه ليحمي نفسه.. يتجنب المواجهة واتخاذ القرارات الصعبة ويعتمد فيها على الآخرين بشكل فيه تهرب من المسؤولية وليس من باب التفويض ومنح الثقة.. وكذلك:
٣- المدير المتآمر:
الذي يدير فريقه بالتفرقة بينهم.. ويعمل على حماية موقعه بتعطيل نمو أيٍّ منهم لأنه يحتمل في ذلك تهديد لمصالحه.. يسعى دائمًا لتحقيق مكاسب على حساب الآخرين، ويخلق بيئة عمل مليئة بالتوتر وعدم الثقة.. وكذلك:
٤- المدير المتردد:
يعاني من البطء في اتخاذ القرارات نتيجة التمسك الشديد بالمثالية والخوف المبالغ فيه من الفشل أو التعرض للنقد. يفتقر إلى الثقة بالنفس ومهارات التفاوض والإقناع والدفاع عن الموقف وحشد التأييد، وغالبًا ما يتطلب وقتًا طويلاً لدراسة أي خطوة، مما يؤدي إلى تأخير تنفيذ المشاريع وضعف الإنتاجية.
٥- المدير الساذج:
سريع التصديق والتأثر والتقلّب، يصعب الاعتماد على رأيه الذي لن يثبت هو عليه طويلاً..هو المدير الذي يثق بالجميع بسهولة ويصعب عليه التمييز بين النوايا الحقيقية والمزيفة. يتعامل مع الأمور بسطحية ولا يمتلك نظرة واقعية لمجريات العمل، مما يجعله عرضة للاستغلال من قبل الموظفين عديمي الضمير.. وأيضاً:
٦- المدير الهجومي:
باحثٌ عن الأخطاء سريعٌ في إطلاق الأحكام السلبيّة، مصدر قلق دائمٍ لأنه يميل إلى الاتهام ويعتمد على تحليله الشخصي المندفع والسريع. لا يعرف معنى لـ (الاستماع العميق Deep Listening)، ولا (تحليل الأسباب الجذرية Root Cause Analysis)، أو (التعاطف Emplthy) بمعناه الذي يقتضي النظر للأمور من زاوية نظر الآخرين لفهمها وفهم مبرراتها.. ولهذا هو صعب جداً وعنيد في تقبّل الأعذار والمبررات مهما كانت واقعية.. وغالباً يخرج من عنده الموظف بـ(ريق جاف) فقط!
وهنا حيث تصبح (سلطة المدير) هاجساً وعقبة في طريق أداء وتطوّر الموظفين فينتظرون متى ينقشع عنهم أو يرحلون هم عنه. وما سينتج عن هذا من فشل إداري في بناء ثقافة العمل بروح الفريق الواحد والمتضامن والمتجانس بين أعضاء المجموعة الواحدة.
فيأتي السؤال المحوري: هل يتم تأهيل أي موظف قبل تسليمه قيادة فريق لأول مرة في المنشأة ؟ وكم منشأة تهتم بتأهيل موظفيها قيادياً قبل منحهم هذا المقعد الخطير؟ أو على الأقل: كم منشأة لديها معايير لاختيار الموظف المرشح لرئاسة قسم أو إدارة أو حتى لرئاسة المنشأة .. نوعٌ من التأهيل يتعدى الاكتفاء بالمهارات التخصصية التقنية ويغوص عميقاً في بناء "شخصية المدير" بما يشمل المهارات الشخصية والاجتماعية.. كمهارات قيادة الفريق وفض النزاعات وحل المشكلات والتفويض والتحفيز والتفكير والتخطيط الاستراتيجي وإدارة التوقعات والذكاء العاطفي والتواصل الفعّال والاستماع العميق، وطرق قراءة شخصيات الموظفين وفهم الفوارق العميقة بينها وكيفية اكتشاف نقاط القوة والضعف في كل منها لمنحه الموقع المناسب له في الفريق؟ وحتى القيم الأخلاقية في الإدارة والقيادة كالتواضع والعدل والنزاهة والصدق.
الجواب معروف مسبقاً، إذ يجب أن تكون ثقافة المنشأة نفسها وصنّاع القرار فيها على درجةٍ عاليةٍ جداً من النضج والنظر البعيد كي تستثمر إنسانياً في منسوبيها عبر إخضاعهم لبرامج تأهيل من أجل تنمية المهارات القيادية والاجتماعية في المرشحين لمواقعها القيادية، صغرت هذه المواقع أم كبرت، فما الفرق بين مدير يسيء إدارة الموظفين وبين مدير يبدد ميزانية القسم؟ كلاهما يهدر موارد مهمة جداً من موارد المنشأة ويتسبب في ضياعها وخسارتها .. إلا أن الثاني ستظهر مساوئه بسرعة بينما قد يحتاج الأول إلى وقت أطول حتى ينخر ضرره في صلب بنية الفريق ويهدمه.
هناك خليط معقّد من الطباع والصفات والملكات الشخصية، وبين الكفاءات المهنية، التي يجب أن يتوفّر عليها المدير قبل أن يتحول إلى محور حياة موظفيه وممرّ رزقهم ويتعلق بيده مصير مستقبلهم، وهي التي ستضع العلامة الفارقة بين قائد ومعلّم ومايسترو يصنع خلية نحل نشطة داخل فريقه تتواصل فيما بينها بلغة تفاهم منسجمة ومميزة وحيوية، وبين مراسل لا يمثّل أكثر من قناة لتمر من خلاله أوامر الإدارة العليا مشفوعة برغباته الشخصية.
وقديماً قالوا:
أن تكون فرداً في جماعة الأسود .. خير من أن تكون قائداً للنعام
شارك المقال عبر: