شارك المقال عبر:
حسين الحاجي:
هل تقلّصت من أعلى أرفف المكتبات تلك الكتب التي تتحدث بإسهاب حول جوانب دخول التقنية في حياتنا، وتطبيقاتها، وآثارها، ودورها في تطوير التواصل وإنجاز المهام؟
المفترض أنها لم تعد بنفس الكثرة، مع تلاشي الفترة الزمنية التي كانت التقنية فيها شيئاً جديداً على الناس، مما جعل جمهور القراء آنذاك بحاجة للتوعية لما سيكون عليه المستقبل مع التقنية، وكيف يمكن الاستعداد له والاستفادة منه وتطويعه لخدمة الأهداف التعليمية والمهنيّة وتحقيق الإنجازات الشخصية والوظيفية. والذي صرنا نعيشه واقعاً اليوم.
ولأن تطبيقات التقنية لم يستعص عليها أي قطاع في الحياة، وصولاً إلى إجراء العمليات الجراحية عبر الروبوتات وعن بعد، فلا مجال لرصد كل التغيرات التي حدثت مع طفرة التحول هذه، بل ولا حاجة إلى عملٍ من هذا النوع والحجم، إنما هي فرصة جيدة للطلاب الجامعيين وحديثي التخرج والمقلبين على سوق العمل والمستجدين في العالم الوظيفي أن ينظروا إلى زوايا مهمة من هذا التحوّل، طالما أن الوقت لم يفت كثيراً ولا زال لديهم مشوار جيد من التعلّم واستيعاب الحاضر واستشراف المستقبل، ولديهم كذلك متسع من الوقت للتدرب والتطبيق وجني الثمار والفوائد.
النمط الإلكتروني للتعلم والعمل، بمجالاته المختلفة، أصبح اتجاهاً رئيسياً يتحدث عنه العالم كله اليوم تحت مسمى التحول الرقمي Digital Transformation وتنمو من خلاله نماذجٌ لم تكن معهودة من قبل (بهذا القدر من الانتشار والتنوّع، وإثبات الجدوى والفائدة، تحديداً). مما يجعلها تختزل الفرص الكبرى والمهارات الضرورية لمن ينشد صعوداً في مسيرته أو تحسيناً في مستوى دخله.
بنظرة بسيطة إلى عالم الأعمال نجد أن نمط الحياة المهنّية وقنوات ريادة الأعمال وتحقيق الأرباح وإنجاز الأعمال وبناء القدرات جميعها تشهد تحولاً كبيراً نحو العالم الإلكتروني، يقود هذا التحول عدد من الركائز التي تحكم المشهد العام عالمياً، ومن أبرزها: الأعمال الإلكترونية، والتعلم الإلكتروني، والتجارة الإلكترونية، والتسويق الإلكتروني. والتي سنتحدث عن كل منها خلال هذه المقالة.
لم تعد المهارات التقنية شأن المبرمجين والمتخصصين في كليات الحاسب الآلي وحدهم، حيث يتم إنجاز معظم الأعمال اليوم عبر الحوسبة السحابية بما فيها الأعمال الإدارية البحتة فضلاً عن المجالات الأخرى.
فحتى لو كانت الشركة عالميةً ولديها فروع في دول متباعدة ومختلفة، إلا أن بإمكان موظفيها العمل وكأنهم في غرفة واحدة عبر فضاء الإنترنت الذي يوفر القابلية لمشاركة كافة أنواع المستندات والوسائط ومزامنتها لحظياً مع إمكانية اجراء جميع الاجتماعات عن بعد كذلك. وهذا النمط من الأعمال قد اندرج ضمن الأعمال الحكومية وصارت حكومات العالم تتجه لتحويل كل إجراءاتها عبر الإنترنت مما أصبح يصطلح عليه بالـ الحكومة الإلكترونية e-government .
إتقان إدارة الأعمال وتوزيع المهام ومتابعة المشاريع وقيادة الفرق، باستخدام نماذج الأعمال الإلكترونية، وعبر العديد من المنصات والتطبيقات والأدوات المتخصصة التي تتكاثر مع الوقت، هي إضافة ومهارة ذات قيمة إلى السيرة الشخصية للشاب.
فمن الجيد قبل التقدم إلى أي وظيفة في أي قطاع واختصاص أن يعمل المرشح بحثاً وافياً حول أهم الأدوات والمنصات الإلكترونية التي تستخدم بكثرة في هذا المجال، ويعمل على التدرب عليها وتحصيل بعض الشهادات فيها إن وجد، وبيان قدرته على استخدامها في السيرة الذاتية لتكون إضافة داعمة لطلب التوظيف.
النمط الحديث للتعليم، حيث يحتوي الإنترنت اليوم على محتوى ثري في مختلف الفنون والمجالات والتخصصات الأكاديمية والفنّية وتتنافس الجهات التعليمية حول العالم لتمد المتعلمين بالمصادر والمناهج المحدثة، ويساعد التعليم الإلكتروني على تسريع حركة نشر المعرفة وتقليل تكلفتها وجعلها أكثر ديناميكية ومرونة وقابلية للنمو والتغير حسب آخر ما يصل له الإنسان في كل مجال.
النمط الذي ينمو في العالم اليوم هو (التعليم المستمر)، فلم يعد من المقبول حصر التعلّم كمرحلة زمنية في سنوات معدودة من عمر الإنسان وبمحتوى محدد وفقط ثم يتوقف الإنسان عن اكتساب المزيد والبحث عن الجديد في زمن ينمو ويتجدد فيه المحتوى المعرفي بسرعة مضاعفة.
فالتعليم الآن مفتوح المصادر، مفتوح الزمن، مفتوح المجالات. وعبر التعليم الإلكتروني تتم رقمنة محتوى جامعات وأكاديميات بأكملها وجعله متاحاً للمتعلمين من حول العالم ومن شتى اللغات والفئات العمرية والاختصاصات المهنية. ولا يبقى إلا أن يشحذ المتعلم همته ويستمر في تحصيل الجديد والمميز ليكون دائماً عند مستوى الطلب والتحدي في سوق العمل بل ومتقدماً عليه في المسيرة، وتزداد قيمته في سوق العمل مع الوقت.
من منا لم يسبق له (حتى الآن!) شراء أو على الأقل تصفّح المنتجات عبر واحدة أو عدة من المنصات أو المتاجر العالمية والمحلية الإلكترونية؟
إنها التجارة الإلكترونية، النمط الذي يكتسح سوق التجزئة، بل وسوق الجملة العالمية، وتتسابق فيه الدول لرفع نسبة عمليات التسوق الإلكتروني ضمن العمليات التجارية عموماً.
تجري العمليات التجارية اليوم بمئات المليارات من الدولارات عبر الإنترنت، وتشارك بها كبرى الحكومات والشركات، وتشمل مختلف أصناف المنتجات. سهّلت التجارة الإلكترونية على الجميع عقد الصفقات المتناهية الصغر والعملاقة على حد سواء وبين أطراف في دول مختلفة دون الحاجة لتحمل تكاليف السفر والبحث الطويل والاجتماعات والمفاوضات. مما وفر الكثير من المال والجهد والوقت وسرّع الإنجاز وسهّل على الكثيرين دخول السوق وبدئ الأعمال التجارية وإن كان ذلك سيشعل روح المنافسة أيضاً.
التجارة الإلكترونية باب واسع من الفرص التجارية وهي كذلك باب واسع لوظائف مختلفة الأنواع: العمل بدوام الكامل، العمل بدوام الجزئي، العمل عن بعد، العمل بالساعة -المرن- وحتى إطلاق مشروع فردي-شخصي ضمن مجالات العمل الحر عبر الإنترنت. فكل مهارة ترتبط بالتجارة الإلكترونية يمكنها أن تصنع فرصةً تجارية أو وظيفية. حرفياً: كل مهارة! من التسويق إلى التصميم إلى كتابة المحتوى إلى التدريب والاستشارات إلى تحليل البيانات إلى إدارة المنتجات إلى إدارة الحملات الإعلانية وحسابات التواصل الاجتماعي إلى إدارة المبيعات إلى الخدمات اللوجستية إلى إدارة تجربة المستخدم إلى مختلف المهارات التقنية والإدارية الأخرى.
لم يتأخر الوقت كثيراً، ومهما كنا نسمع بالأرقام الكبيرة والقفزات النوعية التي يحققها هذا القطاع في المملكة، إلا أن الساحة لا زالت تستوعب المزيد وتعد بالمزيد، ولازال في متناول كل منا الفرصة الكافية لاقتطاع جزء من كعكة التجارة الإلكترونية العملاقة والمشاركة في مسيرة التحول الرقمي هذه، إما بإطلاق مشروعه الخاص في مجال بيع الخدمات أو المنتجات، وحسب نمط العمل الجمهور المستهدف الذي يختار (ومنها على الأكثر انتشاراً: B2B – B2C – C2B – C2C ).. أو بالانضمام إلى أحد المشاريع القائمة فعلاً في قطاع التجارة الإلكترونية والانتماء إلى أحد أقسامها في أي مجال واخصاص.
يمتد عالم التسويق عموماً والتسويق الإلكتروني تحديداً إلى أفق أوسع وأشمل من مجرد الإعلانات المدفوعة بمختلف أشكالها وقنواتها، ولا يهدف إلى مجرد تحقيق المبيعات، فالتسويق الإلكتروني يحتاجه كل كيان يرغب ببناء هوية ما وصناعة وعي حولها وجذب المهتمين إليها وكسب تفاعلهم المستمر معها.
فالتواجد الإلكتروني لمختلف الجهات الوزارية والحكومية مثلاً، والجمعيات الأهلية والجهات غير الربحية والخدمية عموماً ممن يحتاج إلى إيصال العديد من الرسائل للمستهدفين والمحتوى المعلوماتي وكسب التفاعل والمتابعة والاهتمام وزيادة الوعي، ولا يستهدف بالضرورة تحقيق مبيعات وعوائد مادية، هي أيضاً جهات تحتاج التسويق الإلكتروني (تسويق الهوية، والمحتوى، وإيصال الرسالة، والتواجد الرقمي الفعّال) وتعمل وفق استراتيجياته وقنواته. وغني عن الذكر أن الجهات الربحية والمؤسسات التجارية تعتمد اعتماداً وثيقاً على التسويق الإلكتروني لجني الأرباح وجذب العملاء وبناء قاعدة وشبكة واسعة من المتابعين لاستثمارها على المدى البعيد.
* * *
اتساع تطبيقات التسويق الإلكتروني على مستوى الجهات وحتى الأفراد قد ينتهي بنا إلى قناعة، فمهما كان مجال اهتمام الفرد، وتخصصه، وأهدافه المستقبلية، سواءً اقترب في ذلك أو ابتعد عن التسويق كتخصص دراسي ومجال مهني: إلا أنه من الجيد لكل فرد أن يدرس ولو مقدمة عامة في التسويق الإلكتروني. لأن تطبيقات التسويق الرقمي التي تمارسها الشركات والمؤسسات والجهات المختلفة، يمكن للأفراد العاديين أيضاً أن يمارسوا ولو شيئاً منها لتسويق أنفسهم باحتراف وكفاءة عبر الإنترنت، ليصلوا إلى أهدافهم المهنيّة المختلفة بالطرق الحديثة، ويقتربوا من الفرص المهمة، ويجذبوا انتباه الجهات المعنيّة وينجحوا في التواصل الفعّال وإنشاء العلاقات مع أصحاب الاهتمام المشترك أو صنّاع القرار المستهدفين في مجالاتهم. كل ذلك يمكن تحقيقه عبر بعض الممارسات المهمة التي يمكن تعلمها في دورات التسويق الرقمي، وبناء العلامة التجارية الشخصية Personal Branding.
هذه الاتجاهات الأربعة تتكامل فيما بينها لتفتح آفاقاً لا نهائية من الفرص الرائعة والجبارة، ورغم التقدم العالمي الهائل في هذه المسارات إلا أن الفرص لم تنته بعد ولا زال بإمكاننا حصد الكثير من الإنجازات في كل منها عبر التأمل في السوق ونوعية احتياجاته التي تتطور باستمرار. وبنفس الوقت تتيح لنا حلولاً كي نتطور معها بل ونتقدم عليها.
وفي مملكتنا الحبيبة نشهد نمواً غير مسبوق في البرامج والمعسكرات التدريبية ومبادرات التطوير المهني والتي تضع نصب أعينها أن يكون شباب المملكة على أعلى مستويات التمكن من مهارات العصر الحديث ومتّسقين مع اتجاهاته العلمية والمهنية. حيث أن المخرج النهائي من (برنامج تنمية القدرات البشرية) وهو أحد برامج رؤية السعودية ٢٠٣٠، هو (مواطن منافس عالمياً) كما نقرؤه بوضوح وتفصيل في الوثيقة الإعلامية الخاصة ببرنامج تنمية القدرات البشرية.
شارك المقال عبر: